فصل: باب: دُعاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ دُعاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ

لقَوْلِهِ تعَالَى‏:‏ ‏(‏لولا دعاؤكم‏)‏ وفيه إطلاق الإيمان على الدعاء، وهو من الأعمال، لأن طريقهَ المعروفُ برفع الأيدي، فهو عملُ اليد واللسان، فصح استدلالُ المصنف رحمه الله تعالى‏.‏ قلت‏:‏ وعندي أن الآية لا تعلقَ لها بموضع النزاع، فإنها في حق الكفرة الفجرة، كما يدل عليه قول‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبْتُمْ‏}‏ والدعاء لا ينحصر في اللغة فيما شاع الآن في عرفنا، وهو ما يكونُ برفع الأيدي، بل هو كما في قوله‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ‏}‏ الخ‏.‏ وكما في قوله‏:‏ ‏{‏دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ‏}‏ ‏(‏يونس‏:‏ 22‏)‏، والمعنى‏:‏ أن ربَّكم يكترثُ بكم ويُبالي بكم، لأنكم تدعونَه، ولولا ذلك لما عبأ بكم، على نحول قوله‏:‏ ‏{‏وما كان اللَّهُ معذِّبهم وهو يستغفرون‏}‏ ‏(‏الأنفال‏:‏ 33‏)‏ وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلّم «لا تقومُ الساعةُ حتى لا يبقى في الأرض أحد يقول‏:‏ الله الله» فبقاء الدنيا ببركة اسم الله الأعظم‏.‏

وإن ذهبنا إلى تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنه فنقول‏:‏ إن مرادَه التنبيهُ على ما يُعبأ به عند الله، هو الإيمان، فإنّ رفعَ الأيدي فقط ليس أمراً يُعتدّ به، وإنما هو الإيمان الذي يرحم الله علينا لأجله‏.‏ ولما اتفقوا على أن دعاءَ الكفارِ يُستجاب في الدنيا، كما في قاضيخان فلا بأس أن يكون في استغفارهم أيضاً نفعٌ، ولو في الجملة‏.‏ وفي مسلمٍ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ابن جدعان- رجل مات في الجاهلية- هل يَنْفعُهُ تصدقهُ‏؟‏ قال‏:‏ «لا فإنه ما قال‏:‏ رب اغفر لي وارحمني قط»‏.‏ واستفدت منه‏:‏ أن استغفارَ الكفارِ أيضاً ينفعُ شيئاً، ولو لم يكن منجياً من النار‏.‏ وسيجيءُ الكلام فيه في أبواب الإيمان أزيد من هذا‏.‏ وعلى هذا خرجتِ الآية عن ما نحن فيه، فإن الكلام في الإيمان والمؤمنين، والآية في الكفار، إلا أنّ تمسكَ المصنف رحمه الله تعالى تام، فإنه من قولِ ابن عباس رضي الله تعالى عنه‏:‏ دعاؤكم إيمانكم، وهو صحيح على كل حال‏.‏

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه

وفي مصنف ابن أبي شَيْبة‏:‏ الإسلام عَلانية، والإيمان ههنا، وضرب يدَه على الصدر‏.‏ رجالُهُ كلهم ثقات، إلا رجلٌ وهو‏:‏ علي بن‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وقد وثقوه أيضاً‏.‏ وفي هذا إيماءٌ إلى أن الإيمانَ ينبعثُ من الباطن إلى الجوارح، والإسلامَ يسري من الجوارح إلى القلب، ثم في «فتاوى الحنابلة»‏:‏ أنه إذا لم يُصلِّ رجلٌ، يمهله القاضي ثلاثة أيام، ويفهمه، ثم يقتله كفراً‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يقتله حداً‏.‏ وقال الإمام الهُمام‏:‏ بل يضربُ ضرباً شديداً حتى يسيلَ منه الدم‏.‏ قلتُ‏:‏ والحنفية قد وسعوا للقاضي أنْ يقتلَ من شاء من المبتدعة، فينبغي أن يدخلَ تحته تاركُ الصلاة أيضاً، كما هو في تذكرة الهاشم بن عبد الغفور السندي عن بعض كتب الحنفية ثم عن أحمد رحمه الله تعالى روايةُ الكفرِ في تركِ كلٍ من الخمس أيضاً‏.‏ وسيأتي فيه الكلام مفصلاً‏.‏

باب‏:‏ أُمُورِ الإِيمَان

هذا البابُ كالأصل الكليّ تحته جُزئيات، ولما كان الإيمانُ عبارةً عن المجموع عنده، نَزَلَ إلى تعديد أموره، وأجزائه، ليدل على أنه شيءٌ ذو أجزاء، وإن كان يحكَمُ بالفسق بفَوَات بعض الأجزاء، وبالكفر بفوات بعض آخر‏.‏ وهذا نظيرُ اختلافهم في الصلاة في أصول الفقه‏.‏ فقال الشافعية‏:‏ إن الصلاة اسم للحقيقة المعهودة من التحريمة إلى التسليم، وتدخل فيها المستحبات، والسنن والأركان، ثم ينتفي اسم الصلاةِ بانتفاءِ بعض الأجزاء، وتبقى مع انتفاءِ بعضِها‏.‏ وقال ابن الهُمَام في «التحرير»‏:‏ إنها اسم للأركان فقط، والبقية مكمِّلات لها، وعلى هذا لو فات جزء منها- ولا يكون إلا ركناً على هذا التقدير- يحكَمُ عليها بالبطلان بتاً‏.‏

أقول‏:‏ والحقُ أن النزاعَ إن كان في أنه هل يمكن أن تكون حقيقةً مركبةً من أشياء ينتفي بعض أجزائها، ويبقى اسم الكل عليها أولاً‏؟‏ فالصواب مع الشافعية، فإنا نجدُ أشياءً كثيرة ينتفي بعض أجزائها، ومع هذا لا يرتفعُ اسم الكل عنها‏.‏ وإن كان النزاعُ في أن المكمِّلات للشيء تكون أجزاءً لها دائماً، فالصواب إلى الحنفية‏.‏ إلا أن نَظَرَ الشافعية في الصلاة أصوب، وما ذهب إليه الشيخ ابن الهمام نظرٌ معقوليٌ، لأنه يُبنى على تجريدِ النَّظَرِ عن بعض أجزائه‏.‏ وأهل العرف لا يفرقون بين جزء وجزء، بل يجعلون الشيءَ عبارة عن مجموعِ أجزائه، وإن كان بعضُهَا أدخلُ في تقوم الكلِّ من بعض آخر‏.‏ وتظهر ثمرتُهُ عندهم عند الفوات، فيرون الشيء معدوماً بفوات بعضها، دون بعض، مع أنه لا فرقَ عندهم في كونه جزءُ الشيء‏.‏

والسرُ فيه‏:‏ أن الشيءَ عندهم عبارة عما هو في الواقع، وليست في الواقع إلا الماهية مع عوارضها، والمجموعُ هو الذي يُعبَّر عنه بالشيء عندهم‏.‏ أما حقيقته المعقولية، فهي مأخوذةٌ ومنتزعةٌ عنه، تحتاج إلى تجريدِها عن عوارضِها، فليست هي إلا نحو اعتبار، وهذا الاعتبارُ وإن كان واقعياً، يُبتنى عليه بعض الأحكام، إلا أنه بمعزل عن أنظار أهل العرف‏.‏ أما في الإيمان فالأقربُ فيه نظرُ الحنفية، لأن الأعمال بعطفِهَا على الإيمان جُعلت مكمِّلات له، فلا يكون الإيمانُ مجموعاً مركباً، فجعلها أجزاء خلاف الظاهر، فالأظهر فيه ما اختاره الحنفية‏.‏ نعم، يوجد إطلاق الإيمان على الأعمال في الأحاديث، بما لا يُحصَى، وهو على نظر الشافعية، فإما أن يقال‏:‏ إن الأصلَ هو التصديقُ، والباقي تابع له، وهذا أوفقُ بالحنفية، أو يُلْتَزَمُ اختلافُ الإطلاق، فتارة أطلق على الجزء، وأخرى على الكل، وهذا أوفقُ بالشافعية‏.‏

‏(‏قوله تعالى‏:‏ ليس البر‏)‏ وإنما انتخبها من بين الآيات، إما لكونها أبسطُ في مراده، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلّم تلاها في جوابِ رجلٍ سأله عن الإيمان، كما في «الفتح»‏:‏ أن أبا ذر رحمه الله سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن الإيمان، فتلا عليه‏:‏ «ليس البر»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ ورجاله ثقات‏.‏ قلت‏:‏ وعندي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏(‏المؤمنون‏:‏ 1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ أقرب إلى مقصوده من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ الْبِرَّ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، لأن في الآية الأولى تعديدٌ للأوصاف فقط، وليست جاريةً على الإيمان‏.‏ وفي الآية الثانية الأوصافُ كلها جاريةٌ على الإيمان، لأن المعطوفاتِ كلها إما صفاتٌ مادحةٌ للمؤمنين، أو كاشفةٌ لهم، وعلى كلا التقديرين، كونُها من أمورهِ أظهر، بقي تفسيرُ قوله‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ الْبِرَّ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ونكتَةُ التعبيرِ بنفي البرِّ عما هو من أبرِّ البر، كالتولِّي إلى القبلة فسأذكره في الصيام‏.‏

وهو مهم جداً‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلّم «ليس من البرِّ الصيامُ في السفر» مع كونه من أعظم الطاعات من هذا الباب أيضاً فانتظره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قبل المشرق والمغرب‏)‏ يعني أن أمرَ التولي إلى جهة، ليس لكون الله سبحانه وتعالى في تلك الجهة، ليتقيد بها دائماً، فلا طاعة في الإصرار عليها، بل البر والطاعة في الانصراف إلى الجهة المأمور بها، أي جهة كانت‏.‏ قوله‏:‏ «الإيمان بضع وستون شعبة»‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ لما فرغ المصنف رحمه الله تعالى عن مباني الإيمان شرع في فروعه وشعبه، وذكر حديث الشعب‏.‏ أقول‏:‏ إن مفهومَ العددِ غيرُ معتبرٍ في الأحكام، فلا نتعرض إلى اختلاف العدد في الروايات‏.‏ وقد تعرَّض الشارحون إلى تعديد تلك الشُّعب‏.‏ والأحبُّ إليّ أن يُتتبع القرآن ويستوفى ذلك العدد منه، بأن يجعلَ كلَّ ما ذكر فيه مع الإيمان شُعبة من شعبهِ، فإن وفَّى به ذلك فهو المراد، وإلا فليفعل مثله في الحديث‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الإيمان مُركب من أمور أعلاها‏:‏ لا إله إلا الله، وأدناها‏:‏ إماطة الأذى عن الطريق‏.‏ والحياء شعبة منه، وإنما نبه على كون الحياء شعبةً من الإيمان، لكونه أمراً خُلُقياً، ربما يَذْهَلُ الذهن عن كونه من الإيمان، فدل على أن الأخلاقَ الحسنة أيضاً منه، وقد مر مني‏:‏ أن ظاهرَ هذا التعبير يؤيدُ نظرَ الشافعية، لأن الشعب تكون أجزاءً للشجرة، ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏(‏إبراهيم‏:‏ 24‏)‏ فشبَّه الكلمةَ بالشجرة، والكلمة هي الإيمان، وثمارُهَا هي الأعمال، قد تكون وقد لا تكون مع بقاء الشجرة، كذلك الأعمال تكون قد وقع، مع بقاء أصل الإيمان، ولكنه بالعطف جعلها مغايراً له، فالنسبة إما كنسبة الأغصان إلى الشجرة، أو الأثر إلى المؤثر، والنظرُ دائر فيه بعد‏.‏ ولنا أن نقول‏:‏ إن للشعب نسبة أخرى إلى أصلها، وهي كونها نابتةٌ منه، وناشئةً عنه، وحينئذٍ لا تكونُ تلك الشعبُ أجزاءٌ، ينتفي الكلُّ بانتفائها، بل فروعاً يبقى اسم الكل مع انتفاء بعضها‏.‏

وقد علمت‏:‏ أن الاختلاف في كونها فروعاً، أو أجزاء، لا يرجع إلى إكفار مُعدَمي الأعمال أو عدمه، بل هو اختلاف تعبير بحسَبَ الأنظار فاعلمه‏.‏ وتفصيلُهُ أن أجزاءَ الشيء لا يجب أن تكونَ كلها مستاويةَ الأقدام، ألا ترى أن الإنسانَ يتركبُ من أجزاء ليست كلها على حد واحد، ولكن بعضها رئيسة وبعضها مرؤسة، كالقلب والدماغ، فإنهما جزءان له، وكذلك الأيدي والأرجل أجزاء له أيضاً، ولكن أين هذا من ذلك‏؟‏ فجزئية الأول بحيث نِيْط بها صلاحُهُ وفلاحه، وليس كذلك الثاني، وهذه هي الحال في الشجرة، فإن فيها جِذْعاً وأغصاناً وشماريخ وأوراقاً، وليست كلُّها متساوية الأقدام‏.‏ نعم، هناك أجزاءٌ أخرى تكون على حد سواء، كاللبنَاتِ للجِدَار، فإن كان مرادَهم بائبات الجُزئية نحو تلك، فلا نُسلَّمها ولا نَرَاهَا ثابتةَ من الأحاديث، وإن أرادوا بها الجُزئية كما في الطائفة الأولى، فإنا نقول بها‏.‏ أما الحديثُ فلم يعبر إلا بكونها شعباً، وفيه تردد بعد من حيث كونها فرعاً، وبحسب كونها جزءاً ولكل وجهة هو موليها‏.‏

9- قوله‏:‏ ‏(‏الحياء‏)‏ وهو عندي لا ينقسمُ إلى نوعين‏:‏ شرعيٌ وعرفيٌ كما قالوا،بل هو أمر واحدٌ، فمن غَلَبَ عليه ذكر الله استحى منه أن يهتكَ محارِمَه، ومن غلبتْ عليه الدنيا استحى منها، فالفرق باعتبار المتعلَّق، واعلم‏:‏ أن بعض الأخلاق الحسنة التي هي مبادىء للإيمان مقدَّمة على الإيمان، يجيءُ عليها لون الإيمان كالأمانة، ولذا قال‏:‏ «لا إيمانَ لمن لا أمانَةَ لَهُ» فالأمانةُ متقدِّمةٌ على الإيمان، وينبغي أن يقدَّم عليه الحياء أيضاً، إلا أنه لما عُدّت توابعُ الإيمان مع الإيمان، جُعِلَ شعبةً منه في الحديث، وكالجزء في التعبير فقط، ولعل الأمرَ كما قلنا، والله تعالى أعلم‏.‏ وعلى هذا فالأحوال عند السلف تكون ثلاثة‏:‏ الإسلام الخالص، والكفرُ الخالص، والثالث‏:‏ ما يشتمل على صفات الإيمان والكفر، فإن الإيمانَ عندهم مُحركب، فيمكن أن يوجدَ في المؤمن خصائلُ الكفر، وفي الكافر خصائلُ الإسلام، ولا يمكن هذا على طورِنا، فإن الإيمان عندنا بسيط، فينحصر الأمرُ في الحالين فقط‏.‏ فريق في الجنة وفريق في السعير‏.‏

باب‏:‏ المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِه

والجملةُ تشتملُ على تعريف الطرفين، وهو مفيدٌ للقصر، وهو من الطرفين عندي‏.‏ أي قد يكون لقصر المسندَ إليه على المسنَد، وقد يكون بالعكس، وقد تصلح جملة لكل منهما، لكن لا على سبيل الاجتماع، كما اختاره الزمخشري في «الفائق»‏.‏ وما قاله التَّفْتَازاني رحمه الله تعالى‏:‏ إن القصرَ من طرفٍ فقط، والمبتدأ هو المقصور، فهو غَلَطٌ عندي‏.‏ ثم إن هذا الحكم قد أخذته الشريعة من الاشتقاق، فالمسلم مَنْ سَلِم الناس من إيذائه، وذلك لأنه وُجِد فيه مأخذ الاشتقاق، وأما من آذى الناسَ ولم يَسْلَم منه الناس، فلم يوجد فيه مأخذُ اشتقاقِ الإسلام، فكأنه ليس بمسلم، وهذا على نحو ما تقول‏:‏ إن العَالَم من اتصف بالعلم‏.‏ والضارب من اتصف بالضربِ‏.‏ فكذلك المسلم من اتصف بوصف السلامة‏.‏ وعلم منه أن الإسلام كما هو معاملة مع الله سبحانه، كذلك معاملة مع الناس أيضاً‏.‏

واعلم أن الإسلام حقيقتُهُ ما يعبر عنه، بأن نقول‏:‏ اطمئنَ أنت مني وأنا مُطمئنٌ منك، لأنه كان من عاداتهم قبلَ الإسلام‏:‏ سفكُ الدماء، وهَتْكَ الأعراض، ونهبُ الأموال، فلما نزلت الشريعةُ أرادات أن تُعينَ لفظاً بأزاء ذلك المفهوم، ليدل عند أول قرع السَّمْع على الأمن، وهو لفظُ الإسلام، ليصيرَ الناسُ في الأمن بعد الخوف، والاطمئنان بعد الفزع‏.‏

10- ولذا قال‏:‏ ‏(‏المسلمُ من سَلِمَ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ «والمؤمنُ من آمَنَهُ الناسُ على دمائِهم وأموالِهم» فكأنه أحاله على اللغة‏.‏

‏(‏والمهاجر‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ هذا أيضاً نوعُ هجرةٍ وفيه قصر، والقصرُ باعتبارِ تنزيلِ الناقصِ منزلة المعدوم، ولا أقول بتقدير الكمال‏.‏ وقد مر تقريره مرة فراجعه‏.‏ ‏(‏قال أبو عبد الله‏)‏ وإنما أتى به لأجل التصريح بالسماع كما هو مذْهَبَه‏.‏ والشَّعْبي اسمه عامر، شيخ الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى‏.‏

باب‏:‏ أَيُّ الإِسْلامِ أَفضَل

باب‏:‏ إطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلام

لما فَرَغَ عن أجزاء الإسلام، أراد أن يذكرَ مراتبُ الإسلام، وههنا إشكال، وهو أنه كيف يَستقيمُ اختلاف الأجوبة مع اتحادِ السؤال‏؟‏ فإنه قد أجاب ههنا بأن الأفضلَ‏:‏ «من سلم المسلمون» الخ وفي حديث آخر أجاب بغيره، والجواب المشهورُ أن الاختلافَ في الأجوبة باعتبار اختلاف حال السائلين‏.‏ قلت‏:‏ وفيه أن هذا الجواب لا يجري إلا فيما صدر عنه القول المذكور في جواب سائل‏.‏ أما إن كان قاله بدايةً بدون سبق سؤال، فينبغي أن يذكرَ ما هو الأفضلُ في الواقع لا غير، ولا يتحمل فيه هذا الاختلاف‏.‏

والجواب الثاني‏:‏ أن الاختلاف باعتبار اختلاف لفظ السؤال، دون حال السائل، ففي بعضه أيُّ الإسلام أفضل‏؟‏ وفي بعضه أيُّ الإسلام خير‏.‏ والأفضلُ يكون بحَسَب الفضائل، وهي المزايا اللازمة كالعلم، والحياة، والخير باعتبار الفواضل، وهي المزايا المتعدية، فالتشتت في الجواب، باعتبار التشتت في السؤال، ولذا أجاب في الأول بالإسلام، وفي الثاني بإطعام الطعام‏.‏ قلت‏:‏ هذا الجواب يحتاج إلى تتبّعٍ بالغ، وإلى تعيين اللفظِ بعينه من صاحب الشريعة والسائل كليهما، وهو أمر عسير، لفُشو الرواية بالمعنى، فما الدليل على أن هذا من لفظه، وليس من الراوي‏.‏

والجواب الثالث للطحاوي في «مشكله» وحاصله‏:‏ أن يجمعَ جميعَ أجوبتِهِ صلى الله عليه وسلّم ثم يجعلُ الأفضل نوعاً كلياً يندرجُ تحته جميع الأشياء التي حُكِمَ عليها بكونها أفضل‏.‏ وحينئذٍ لا يكونَ الأفضل شخصاً لينحصر في فرد‏.‏ ولا يمكنُ أفضلية الآخر معه، بل جملة ما وضعه صلى الله عليه وسلّم في المرتبة الأولى يُجعلُ كالنوع، ويدرجُ تحتَهُ ما ورد في المرتبة الأولى، وهكذا ما وضعه النبي صلى الله عليه وسلّم في المرتبة الثانية‏.‏ يُجعلُ أيضاً كالنوع، ويدرجُ تحتَهُ جملةُ الأمور التي عُدت في المرتبة الثانية‏.‏

وهكذا أقول‏:‏ وهذا إنما يصلحُ جواباً إذا كان الاختلافُ في جواب الأفضلية، بذكر أمر مرة وأمر آخر مكانه مرة أخرى، كما في الحديث المار، فإنه أجاب مرةً بكون الأفضل «من سلم»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ومرة بكونه «إطعام الطعام» ولا يجري فيما إذا جعل أمراً في المرتبةِ الأولى في حديث، وجعل ذلك بعينه في المرتبة الثانية في حديث آخر، فإن كونَ الشيء في المرتبة الأولى، والمرتبة الثانية معاً غير ممكن، فلا يمكن أن تكون الصلاةَ مثلاً أفضلُ من الجهاد، ومفضُولةً منه أيضاً، فإن أُجيب بتعدد الجهات، فهذا غيرُ جوابِ الطحاوي رحمه الله تعالى، إلا أن يتتبَّعَ الطرق، فإن تحقق بعده أن التقديم والتأخير إنما جاء من قبل الراوي، فوضع ما كان في المرتبة الأولى في المرتبة الثانية، أو بالعكس، نفذ جوابه‏.‏ وإن تحقق أنه كذلك من جهة صاحب الشريعة، وليس من جانب الراوي، بقي الاشكال ولا يدفعُهُ جواب الطحاوي رحمه الله تعالى‏.‏

12- ‏(‏تطعم الطعام‏)‏ عبّر بالمضارع إفادةً للاستمرار التجدُّدي‏.‏

12- ‏(‏وتقرأُ السلام‏)‏ واستثنى منه فقهاؤنا مواضع عديدة لا يقرأ فيها السلام، وليراجع له «الدر المختار» من «باب الحظر والإباحة» واعلم أن صيغة‏:‏ السلام عليكم ينبغي أن يفيدَ القصرُ لاشتماله على التعريف‏.‏ قلت‏:‏ لا قصر فيه‏.‏ فإن شئتَ تفصيل المقام‏:‏ فاعلم أن ما اشتهر عندهم أن الجملةَ الإسمية إذا اشتملت على المعرَّف باللام وحرف يعينُ على القصر في الجانب الآخر، يفيدُ القصر، إنما هو إذا كانت اسمية ابتداء غير معدولة عن الفعلية، وإن كانت معدولة عن الفعلية، فلا قصر فيها عندي، لأنه إذا لم يكن القصر في الأصل، كيف يكون في الفرعِ المعدولِ‏؟‏ ومر الزمخشري رحمه الله تعالى على قولهم‏:‏ «السلام عليكم» وتفطَّنَ أنه ينبغي أن يفيدَ القصر، ثم لم يكتب فيه شيئاً شافياً، وكذا مر على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّلَمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ‏}‏ ‏(‏مريم‏:‏ 33‏)‏ واختار أن اللام فيه للعهد‏.‏ قلت‏:‏ ولا يعلق بقلبي، فالجواب عندي‏:‏ أن السلامَ عليكم معدولٌ عن جملة فعلية، أو كانت في الأصل‏:‏ سلَّمتُ سلاماً، فلا تفيد القصر على ما بينا، فإن قلتَ فحينئذٍ ينبغي أن لا يكون جملة الحمد لله أيضاً مفيداً للقصر، لأنها أيضاً معدُولةٌ عن الفعلية، قلت‏:‏ ما الدليل عليه‏؟‏ لم لا يجوز أن تكونَ إسمية ابتداء، وأي رِكَّة فيه‏؟‏ بخلاف قولنا‏:‏ السلام عليكم‏.‏

والحاصل‏:‏ أن ما فيه بيانٌ للعقيدة، فالمناسب هناك جملةٌ إسمية لا غير، وما فيه إنشاءٌ، أمر جاز فيه أن تكونَ معدولةٌ عن الفعلية‏.‏ وبعبارة أخرى‏:‏ إن الجملةَ الفعلية قد يعتبرُ انسلاخُهَا عن معناها، فتفيدُ القصرَ، لأنها جملة إسمية على هذا التقدير ولا لمع فيها إلى الفعلية، كقولنا‏:‏ الحمد لله، إذا قصدنا بها الخبر لأن الأصلَ فيه الإسمية، ولا لمع فيها إلى الفعلية، فتفيدُ القصر بخلاف ما إذا أردنا منها الإنشاء، فإن قيل‏:‏ فحينئذٍ ينبغي أن لا يكون القصر في الحمد لله لأنه إنشاء، وجعلُهُ إخباراً ليس من الحمد في شيء، فإنه إخبارٌ عن الحمد، والإخبارُ عنه ليس بحمد‏.‏ قلت‏:‏ بل الإخبار عن الحمد أيضاً نوعُ حمد وإن جعل إنشاءً فلا قصر فيه أيضاً‏.‏

باب‏:‏ أَيُّ الإِسْلامِ أَفضَل

باب‏:‏ إطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلام

أفاد بإدخال لفظة‏:‏ ‏(‏من‏)‏ على جملة الحديث‏:‏ أن المذكورَ خصلةٌ من الإيمان، والنفي على ما مر محمولٌ على تنزيلِ الناقصِ منزلةِ المعدوم، واعلم أن طريقَ الشارع طريق الوعظ‏.‏ والتذكير، فيختارَ ما هو أدخل في العمل، فلو قدَّرَ الكمالَ في مثل هذه المواضع، يفوتُ غرضُهُ، ولذا لم يكن السلف يحبونَ تأويل قوله صلى الله عليه وسلّم «من ترك الصلاة فقد كفر» بالترك مستحلاً، أو أنه فعلَ فعلِ الكفر، فإنه بالتأويل يَخِفّ الأمر فيفقد العمل‏.‏

باب‏:‏ حُبُّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلّم مِنَ الإِيمَان

الباب الأولُ كانا عاماً لكل مسلم، وهذا خاص كالجزئي منه، وليس الحبُّ فيه هو الشرعي، أو العقلي، كما قاله البيضاوي‏:‏ إن الحب عقلي، وطبعي، والمراد هو العقلي، وقد مر مني أن الحب صفة واحدةٌ، تختلف باختلاف المتعلَّق، إن صرفتَها إلى الآباء والأبناء، سميت طبعية، وإن صرفتها إلى الشرع، سُميت شرعية، فالفرق باعتبار المتعلَّق، كيف وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كان آباؤُكُم وأبناؤكم وأزواجكم وعشيرتُكم وأموالٌ اقتَرفْتُمُوها وتجارةٌ تخشون كسَادَها ومساكنُ ترضَونها أحب إليكم من ا ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربَّصُوا‏}‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏(‏التوبة‏:‏ 24‏)‏ أوجب أن يكونَ حبهما أزيدَ من الكل، وحب هذه الأشياء ليس إلا طبعياً‏.‏ وعند المصنف رحمه الله تعالى عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلّم لأنتَ يا رسولَ الله أحبُّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال‏:‏ «لا، والذي نفسي بيده حتى أكونَ أحب إليك من نفسك»‏.‏ فقال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ فإنك الآن أحب إلي من نفسي، فقال‏:‏ «الآن يا عمر»، وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ لما حَضَرَ أحدٌ دعاني أبي من الليل فقال‏:‏ ما أراني إلا مقتولاً في أولِ من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وإني لا أترك بعدي أعزَّ عليّ منك، غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإن عليّ ديناً‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ رواه البخاري‏.‏ وأمثاله كثيرةٌ تدل على أن نفسَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان أحب عندهم مما في الأرض جميعاً، ولم يكونوا يعلمون غير المحبةِ التي تكون فيما بينهم‏.‏

ولم يخطر ببالهم الحب الشرعي، كما اتضح من قول عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه قابلَ أولاً بين الحبِّ بنفسه والحب بالنبي صلى الله عليه وسلّم ومعلوم أن حبَّه بنفسه لم يكن إلا طبعياً‏.‏ وكذا تواتر من حال غير واحد من الصحابة أنهم جعلوا أنفسهم تُرْساً، ووقاية للنبي صلى الله عليه وسلّم في الغزوات كما رُوي عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه وغيره فالتقسيم تفلسف‏.‏ والأمر كما قلنا، ولا تحمل ألفاظ الحديث إلا على ما تعارفه أهل العرف، واللغة، وليُعلم أنَّ حبَّ النبي صلى الله عليه وسلّم ينبغي أن يكون من حيث ذاته الشريفة، لا من حيث أنه هدانا، والقصر عليه ليس بذاك، فهو محبوب لذاته المباركة الطيبة، ومحبوبٌ لأجل أوصافِهِ الحسنة، وملكاتِهِ الفاضلة، وأخلاقِهِ الكاملة أيضاً‏.‏

باب‏:‏ حَلاوَةِ الإِيمَان

ومقصودهُ أن الحلاوةَ من ثمرات الإيمان، ولما ذكر الإيمانَ وبيَّنَ أموره، وأن حب الرسول من الإيمان، أرْدَفَه بما يُوجد حلاوةَ ذلك‏.‏

16- قوله‏:‏ ‏(‏ثلاث من كن فيه‏)‏ إلخ، وفيه تلميح إلى قصة المريض، والصحيح، لأن المريض الصفراوي، يجدُ طعم العسل مراً، والصحيحُ يذوقُ حلاوته، على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئاً ما، نقص ذوقُهُ بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوّي استدلال المصنف رحمه الله تعالى على الزيادة والنقصان‏.‏

قال الشيخ أبو محمد بن أبي جَمْرة‏:‏ إنما عبر بالحلاوة لأن الله شبَّه الإيمان بالشجرة في قوله‏:‏ ‏{‏مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ‏}‏‏(‏إبراهيم‏:‏ 24‏)‏ فالكلمةُ هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانُها اتِّباعُ الأمر، واجتناب النهي، وورقُها ما يَهُم به المؤمن من الخير، وثمرُهَا عملُ الطاعات، وحلاوة الثمر جَنْيُ الثمرة، وغايةُ كمالِهِ تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها كذا في «الفتح»‏.‏ أقول‏:‏ وإنما عبر بالحلاوة لأن أهلَ العرف يَعُدون المحبة من المذوقات، وهكذا يعبرون عنها في محاوراتهم، وفي القرآن‏:‏ ‏{‏فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ‏}‏ ‏(‏النحل‏:‏ 112‏)‏ هذا واعلم أنه قد أشكل على القوم نسبة الذوق إلى اللباس في الآية الشريفة، فإن اللباس من الملبوسات، لا من المذوقات، ولم يُجبْ عنه أحد جواباً شافياً لطيفاً ليطمئن به القلب، وقد أجبتُ عنه وأثبتهُ في برنامجي ولا يسع الوقت ذكره‏.‏

باب‏:‏ عَلاَمَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَار

لما فرغ من الحُبِّ مطلقاً وكان عاماً، أرْدَفَه بذكر محبة الطائفة، وانتخب منها الأنصار، وجعلها علامةُ الإيمان، فذكر أولاً‏:‏ الإيمان، ثم حلاوتَه، ثم علامته ومأخذ الحديث، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَنَ‏}‏ ‏(‏الحشر‏:‏ 9‏)‏ وفي الآية استعارتان عند علماء البيان‏:‏ الأولى‏:‏ في الفعل استعارة تبعية، والثانية‏:‏ في الإيمان استعارة أصلية‏.‏ وعند النُّحاة هي من باب- علفتها تِبْناً وماءً بارداً، واختار العلامة فيه التضمين، في «حاشية الكشاف» وأنكر عليه ابن كمال باشا، وقال‏:‏ إنه وَهْمٌ توهم من عبارة «الكشاف»‏.‏

والمعنى عندي‏:‏ الذين جعلوا الإيمان مبوأهم، ومقعدهم، كأن الإيمان أحاط بهم، وهؤلاء قاعدون فيه، كقوله‏:‏ ‏{‏إن المتقين في جناتٍ ونَهْر في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مقتدَرِ‏}‏ ‏(‏الفجر‏:‏ 54، 55‏)‏ فالإيمان ظَرْفٌ، وهؤلاء مَظْرُوفُون، وهو كناية عن كمال دينهم، وفيه ترغيب للمهاجرين بحبهم، ولذا جعله الحديث من علامة الإيمان وفيه تنبيه على أن حب أهل ورد الرجل، والخلص من أحبائه، أيضاً ضروري وإن كانوا أجانب، فإن حبَّ أقاربِ النبي صلى الله عليه وسلّم مما فُطِرَ عليه كل مسلم، يعلمه من فطرَتِهِ، أما حبُّ الأنصار الذين فدَوْه من أموالهم وأنفسهم، لكونهم أجانب قد يَذَهَل الذهنُ عن حبهم، فنبَّه على أن حبَّهم أيضاً من علامات الإيمان، لكونهم حَلُّوا منه محلَّ أهلِ البيت من الرجل، وفي الحديث‏:‏ «من بر الولد إكرام أهل ولد أبيه» ‏(‏بالمعنى‏)‏‏.‏

باب

هذا بابٌ بلا ترجمة، وهو متعلقٌ بالأول، لأنه لما ذكر الأنصار أشار إلى سبب تلقُّبهم بالأنصار، وإنما لم يترجم به لأنه بصدد أمورِ الإيمان‏:‏ وليس هذا من أمور الإيمان، فوضع الباب وحذف الترجمة، وذكر فيه حديث بيعة العقبة، وفي قوله‏:‏ «بين أيديهن وأرجلهن» إشكال، ولا يظهرُ وجه التخصيص في حق الرجال‏.‏ قال الخطابي‏:‏ معناه لا تبتهوا الناس كفاحاً بعضكم يشاهد بعضاً، كما يقال‏:‏ قلت كذا بين يدي فلان، وفيه وجوه أُخَر ذكروها في الشروح ‏{‏فعوقب في الدنيا فهو كفارة له‏}‏ استدل به من قال‏:‏ إن الحدود كفارات‏.‏

بحثٌ نفيسٌ في أنَّ الحدودَ كفَّارَاتٌ أم لا‏؟‏

وفي هذه المسألة معركة للقوم، ولم يتحقق عندي ما مذهب الحنفية بعد‏؟‏ ففي عامة كُتُب الأصول‏:‏ أنها زواجر عندنا، وسواتر عند الشافعية‏.‏ وفي «الدر المختار» تصريح بأن الحدود ليست بكفارة عندنا وفي «رد المحتار» في الجنايات، من كتاب الحج عن «ملتقط الفتاوى» أنه لو جنى رجلٌ في الحج، وأدى الجزاءَ سقطَ عنه الإثم، بشرط أن لا يعتاد، فإن اعتاد بقي الإثم، وكذا صرح النسفي في «التيسير» من أنه لو أقيم عليه الحد ثم انزجر يكون الحدُّ كفارةٌ له، وإلا لا وفي الصيام من «الهداية» أيضاً إشارة إلى أن الكفارة ساترة، والكفارةُ والحدودُ من باب واحد‏.‏ وفي التعزير من «البدائع» أيضاً تصريحٌ بأن الحدود كفارات‏.‏

وتكلم الطحاوي على مثل هذا الحديث في «مشكل الآثار» ولم يتكلم حَرْفاً بالخلاف، وكذا بحث العيني رحمه الله تعالى بحثاً، وسكت عن عدم كونها كفارات‏.‏ وأقدمُ النقولِ فيه ما في الطبقات الشافعية من مناظرة الطَّالْقَاني الحنفي مع أبي الطيب وصرح فيها‏:‏ أن الحدود كفارات، وهذا الطالقاني من علماء المئة الرابعة، تلميذ للقُدُوري‏.‏ فلعل ما في كتب الأصول يُبنى على المسامحة، فالاختلاف إنما كان في الأنظار، فجعلوه اختلافاً في المسألة، فنظرَ الحنفية أنها نزلت للزجر، وإن اشتملت على الستر أيضاً، ونظر الشافعية أنها للستر بالذات، وإن حصل منها الزجر أيضاً‏.‏

قلت‏:‏ إن كان الأمرُ كما علمت، فالأصوبُ نظر الحنفية، وإليه يرشد القرآن، وغير واحد من الأحاديث، كما لا يخفى، ثم إنهم لما قرروا الخلاف ومشى عليه الشارحون أيضاً، وإن كان بحثُ الحافظين في هذا المقام كالبحث العلمي والتفتيش المقامي، لا كالانتصار للمذهب، لكنه مع ذلك اشتهر الخلاف، حتى نقل في كتب الأصول أيضاً‏.‏

فاعلم‏:‏ أن هذا الحديث وإن دل على كون الحدود كفارات، لكن يعارضُهُ ما رواه الحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال‏:‏ «لا أدري الحدود كفارات أم لا‏؟‏» وادّعى الحافظ رحمه الله تعالى أن حديث الحاكم متقدم، وحديث الباب متأخر، وكأن النبي صلى الله عليه وسلّم توقف في أول أمره، ثم جزم بكونها كفارات، ويرد عليه أن حديث عُبادة كيف يكون متأخراً مع أن بيعة العقبة إنما هي في مكة قبل الهجرة، وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الحاكم متأخر عنه، لأنه أسلمَ السنة السابعة بعد الهجرة النبوية، وفيه تصريح بالسماع، فدل على أنه سمعه بنفسه في السنة السابعة‏.‏ وأجاب عنه الحافظ رحمه الله تعالى أن هذه بيعة أخرى، بعد فتح مكة، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عْبادة رضي الله تعالى عنه حضر البيعتين معاً، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به، فكان يذكرها إذا حدث تنويهاً بسابقيته‏.‏

وحاصله‏:‏ أن ذكر ليلة العقبة ههنا لتعريف حاله، لا لأن تلك البيعة كانت فيها، فجاز أن يكونَ حديثُ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مقدماً وحديث عُبادة رضي الله تعالى عنه متأخراً‏.‏ وعارضه العيني رحمه الله تعالى وقال‏:‏ بل هي البيعةُ التي وقعت بمكة، والقرينة عليه أن فيه لفظ‏:‏ «العصابة» وهو لا يطلق على ما زاد على الأربعين، وفي لفظ‏:‏ «الرهط» وهو لأقل منه، فدل على قلة الرجال، في تلك البيعة؛ فلو كانت تلك ما كانت بعد فتح مكة، لاشترك فيها ألوفٌ من الناس، لشيوع الإسلام إذ ذاك، فهذه قرينة واضحة على أنها هي التي كانت بمكة، وحينئذٍ لا يحتاج إلى ما أوّل به الحافظ رحمه الله تعالى أيضاً، من أن ذكر الليلة لتعريف الحال، ويبقى الحديث على ظاهره‏.‏ واستدل الحافظ رحمه الله تعالى على تأخر تلك البيعة لقرينة أخرى، وقال‏:‏ ويقوي أنها وقعت بعد فتح مكة، بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءكَ الْمُؤْمِنَتُ يُبَايِعْنَكَ‏}‏ ‏(‏الممتحنة‏:‏ 12‏)‏ إلخ، ونزول هذه الآية متأخرٌ بعد قصة الحديبية، بلا خلاف‏.‏ والدليل عليه ما عند مسلم عن عُبادة في هذا الحديث‏:‏ «أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما أخذ على النساء» قال الحافظ‏:‏ بعد سرد الأحاديث‏:‏ إن هذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية، بل بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة، وعارضه الشيخ العيني رحمه الله تعالى، بروايات في البيعة الأولى، وفيها هذه الألفاظ أيضاً، فلم يكن دليلاً على أنها بعد نزول الممتحنة، وإن اشتركت الألفاظ‏.‏

أقول‏:‏ لا شك أن التبادر إلى الحافظ رحمه الله تعالى، فإن ألفاظَ الحديث كأنها مأخوذة من سورة الممتحنة‏.‏ وأجاب الشيخ بوجه آخر أيضاً وقال‏:‏ ما الدليل على أن المراد من العقوبة هي الحدود‏؟‏ لم لا يجوز أن يكونَ المرادُ منه المصائب الأخرى كما في الحديث‏:‏ «أن الشوكة يشاكها الرجل أيضاً كفارة»، وحينئذٍ يخرج الحديث عن موضع النزاع‏.‏ واعترض عليه الحافظ رحمه الله تعالى إن هذه المصائب لا دخل فيها للستر، فما معنى قوله‏:‏ «فستره الله» إلخ، فإنما هي معاملة الرجل في نفسه‏.‏ قلت‏:‏ ومن المصائب ما يُشهر بين الناس كاشتهار القبائح والخزي، فيحتاج إلى الستر في مثل هذه، وحينئذٍ صح التقابل، واستقام قوله‏:‏ «ثم ستره الله»‏.‏ ثم رأيت حديثاً في «كنز العمال» عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه‏:‏ «فأقيم الحد» فهو كفارة له، فهذا صريح في أن المراد منه الحدود، دون المصائب، ولكن في إسناده تردد وأسقطه ابن عَدِي، وعندي فيه اضطراب أيضاً‏.‏

ثم أقول إن الستر على نحوين‏:‏ الستر عند الناس، وهو في الحدود، والستر عند الله، وهو بالمغفرة، والإغماض عنه، فالسترُ بهذا المعنى يصح في المصائب أيضاً، ويصح التقابل، وحينئذٍ حاصله أن من أصاب من ذلك شيئاً ثم غَفَرَ الله له في الدنيا فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه يوم القيامة أيضاً وإن شاء عاقبه‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما الفرقُ بين الحدود والمصائب، حيث اخْتُلِف في تكفير الحدود دون المصائب، فإنها مكفرات اتفاقاً‏.‏ قلت‏:‏ الفرق عندي أن الحدود إنما تقام بأسباب ظاهرة كالزنا والسرقة، بخلافِ المصائبِ، فإنها بأسباب سماوية، ولا تجيءُ بأسباب ظاهرة، فإنك إن ضُرِبت الحد، تعلم أنك فعلت موجبُهُ، فلا يسعُ لك أن تقول‏:‏ لم رجمتُ أو لم قطعت يدي‏؟‏ بخلاف ما شكيت أو مرضت لا تدري ما موجبه، فيسع لك السؤال عنه‏.‏

وهذا كمن ضرب عبده لا عن سبب ظاهر، جاز له أن يقول لسيده‏:‏ لم ضربتني‏.‏ فلما كانت تلك المصائبُ لا عن أسباب ظاهرة، بل عن أسباب سماوية، ويسعُ السؤالُ عنها بحَسَب الظاهر، جعلَهَا اللَّهُ سبحانه كفارةً رحمةً، على عباده ومِنَةً عليهم، فكأنه جواب عن قولك‏:‏ لم ابتليتني بتلك البلية قبل سؤالك عنها، بخلاف ما إذا حُدّ رجلٌ فإنه ليس له أن يسألَ عنه من أول الأمر، فجاز أن يكون كفارةً، وجاز أن لا يكون كفارة، ولا يتأتَّى فيه سؤالٍ‏:‏ لِمَ‏.‏ وهو ظاهر‏.‏

وقال مولانا شيخ الهند رحمه الله تعالى في وجه الفرق‏:‏ إن المصائبَ وإن كانت كفارةً، إلا أنه لا تتعينُ أنها لأي معصية، بخلاف الحدود، فإنها كفارةٌ لما حُدّ له على التعيين عند من يراه كفارة، فالرجم كفارة للزنا الذي أتى به، وقَطْعُ اليد، كفارة للسرقة التي ارتكبها بخلاف المصائب، فإنها لا يُدرى بكونها كفارة لمعصية على التعيين‏.‏

ثم لي تذكرةٌ مستقلةٌ في الجمع بين حديثي عُبادة رضي الله عنه وأبي هريرة رضي الله عنه بحيث يَصِح الحديثان من غير احتياج إلى النسخ، وحاصله‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعلمُ حكمَ الحدود من حيث العموم، ولم يكن نَزَلَ فيها شيء خاص، فلم يكن يعلم حكمُها من حيث الخصوص، أما علمه من جهة العموم، فمما نزل عليه في تكفير المصائب مطلقاً، والحدُّ أيضاً مصيبةٌ بحسَب الظاهر، فينبغي أن تكون كفارةً، كما أن سائر المصائب كذلك، فكأن الحدود اندرجت تحت هذا العموم‏.‏ ولما لم يكن نَزَلَ عليه شيءٌ في الحدود خاصة، والقرآن أيضاً لم يصرح فيها بشيء، توقفَ النبي صلى الله عليه وسلّم وقال‏:‏ «لا أدري الحدود كفارات أم لا‏؟‏» أي لا أدري من حيث الخصوص‏.‏ ونظيرُهُ أنه صلى الله عليه وسلّم سئل عن الخمر في باب الزكاة فقال‏:‏ «لم ينزل علي فيه شيء، غير تلك الآية الجامعة، ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏» فذكر القانونَ وبيَّن حكمه من حيث العموم، ونفى عن حكم جزئي، كذلك ههنا، فحديث عُبادة رضي الله عنه نظراً إلى العمومات، وحديث أبي هريرة في التوقف نظراً إلى خصوصِ الحُكم‏.‏

واعلم أن في حديث الحاكم بعد قوله المذكور زيادة وهي‏:‏ «لا أدري التبع كان مؤمناً أم لا‏؟‏ ولا أدري خضر كان نبياً أم لا‏؟‏» وقد كنتُ متحيراً في مراده، فإنه صلى الله عليه وسلّم متى ادّعى علم جميعِ الأشياء لنفسه، فإنه إن كان لا يعلم هذه الأشياء، فقد كان لا يعلمُ كثيراً من الأشياء غيرها، فما معنى نفي علم هذه الأشياء خاصة‏؟‏ فلما راجعت القرآن بدا لي مراده، وهو أنّ القرآنَ ذكرَ الحدود ولم يتعرض إلى كونها كفارة في موضع‏.‏ وكذا ذكر التبع، وخَضِرٌ عليه السلام، ولم يتعرض إلى إيمانهما فتبيَّن أنه يريدُ نفيَ علمه عما ذُكر في القرآن‏.‏ أعني أنه صلى الله عليه وسلّم وإن كان لا يدري غير واحد من الأشياء، ولكنه خصص هذه بنفي العلم، لكونها مذكورة في القرآن، ثم لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلّم تفاصيلها، فكأنه يريد أن كثيراً من الأشياء، وإن كنتُ لا أدريها، ولكن لا علم لي على وجه التفصيل ببعض ما ذكر في القرآن أيضاً، كالتبع، وخضر، والحدود فإنها مع كونها مذكورة في القرآن، لا أدريها بتفاصيلها، فخصَّها بالذكر لهذا المعنى‏.‏ واستدل المدرسون بما في الطحاوي أن النبي صلى الله عليه وسلّم أُتِيَ بلص اعترف اعترافاً، ولم يوجد معه المتاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما أخالُك سَرْقت»، قال‏:‏ بلى يا رسول الله، فأمر به فقُطِعَ، ثم جيءَ به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «استغفر الله وتُبْ إليه» ثم قال‏:‏ «اللهم تُب عليه»، فلو كان الحدُّ ساتراً كما قال به الشافعية، لما احتاج إلى الاستغفار بعده، مع أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمره بالاستغفار‏.‏

فعلم منه أن الحدودَ أصلُهَا للزجر، وإنما يصير ساتراً بعد لحوقِ التوبةِ‏.‏

قلت‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلّم «وتب إليه» يحتمل معنيين‏:‏ الأول‏:‏ «وتب إليه»، أي في الحالة الراهنة، ليصيرَ الحدُّ كفارةٌ لذنبك، وحينئذٍ يتم الاستدلال لأنه دل على أن الحدَّ لم يصر كفارةٌ بعد، والثاني‏:‏ معناه في الاستقبال، بأن لا تفعله ثانياً، كما يقال للصبيان عند التأديب‏:‏ تب تب، لا يكون معناه إلا الانزجارُ عنه في الاستقبال، وحينئذٍ يخرجُ عما نحن فيه ولا يتم الاستدلال، والظاهر هو الأول‏.‏

واعترض عليه الحافظ أن اشتراط التوبة للتكفير، مذهب المعتزلة، لا مذهب أهل السنة والجماعة‏.‏ قلت‏:‏ كلا، بل المغفرةُ قبل التوبة وتحت الاختيار، وبعدها موعودةٌ، فظهر الفرق‏.‏ ثم إن البغوي من الشافعية أيضاً قائل به‏.‏ يعني أن الحدودَ عنده أيضاً سواترُ بشرط التوبة‏.‏

وأصل البحث في القرآن، فرأيت جماعةً من المفسرين اختاروا التكفير، وجماعة أخرى يختارون أنها زواجر، ويُستفاد من صنيعهم أنهم يأخذونه من القرآن على طريق الاستنباط، وليس عندهم مذهبٌ منقح، ولذا لا يذكرون مذاهبهم، بل يبحثون كبحث العلماء‏.‏ أقول‏:‏ وتفحصتُ القرآنَ لذلك، وما رأيتُ في موضعٍ أنه ذكر الحدود ثم وعدَ بكونها كفارة، فمن نَظَرَ إلى عدم ذكر الوعد، ادّعى أنها ليست كفارة، ومن نظر إلى أنهم إذا أُقيمَ عليهم مثلُ هذه العقوبات الشديدة كالرجم والقطع، فينبغي أن تكون مكفراتٌ أيضاً، ذهب يدّعي أنهامكفرات‏.‏ وكبيرُ نزاعِهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَآء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏(‏المائدة‏:‏ 33‏)‏، وفيه تصريحٌ بعد ذكر حدِّهم‏:‏ أن لهم في الآخرة عذاب عظيم، فكأنهم لم يرتفع عنهم العذابُ بعد إقامة الحد أيضاً، وهذا يُشعر بعدم كونها مكفرات‏.‏ ولهذا جَزَمَ البغوي بعدم كون الحدود مكفرات‏.‏

قلت‏:‏ ولي فيه تردد، لأنهم اختلفوا في شأن نزولها ففي الصحيحين‏:‏ أنها نزلت في العُرَنيين، ومعلوم أنهم كانوا ارتدُّوا بعد إسلامهم، وحينئذٍ فالآية خارجةٌ عن موضع النزاع، لأن المسألةَ إنما كانت في المسلمين‏.‏ أما التكفيرُ في حق الكفار، فلم يقل به أحد‏.‏ وقيل‏:‏ الآية في قُطَّاع الطريق، وإليه ذهب الجمهور، وهو المنقولُ عن مالك رحمه الله تعالى‏.‏ وحينئذٍ يتمُ الاستدلال، لأن قطعَ الطريق يمكن من المسلمين أيضاً‏.‏

قلت‏:‏ والآية عندي في حق العُرنيين، إلا أن الآية لم تأخذ ارتِدَادهم، وكفرهم في العنوان، بل أدارت الحكم على وصفِ قطعِ الطريق، فيدور الحكمُ أيضاً على قطع الطريق‏.‏ ولا يقتصرُ على المرتدين والكفار فقط‏.‏ ومع ذلك أقول‏:‏ إن استدلال البغوي ضعيفٌ، لأني أجدُ المعصية الواحدة تختلف شدَّةً وخفة، باعتبارٍ حال الفاعلين‏.‏ وهذا معقول، فقد تكونُ المعصيةُ من المؤمن، ويخف العقاب عليها رعايةً لإيمانه، وتكون تلك المعصيةُ بعينها من الكفار، ويُزاد في عقوبته لحال كفره‏.‏ وعليه جرى العرفُ فيما بيننا أيضاً، فلا نؤاخذُ حبيبنَا على أمرٍ ارتكبه، كما نؤاخذُ به عدونَا على ذلك الأمر بعينِهِ‏.‏ وحينئذٍ يمكن أن يكونَ ذكرُ العذاب في الآخر جرى لحالِ كفرهم، فإن المعصيةَ تزدادُ شَنَاعَةً بحسَبَ الفاعلين، فقطعُ الطريقِ من المسلمين شنيعٌ، وهو من المرتدينَ أشنع‏.‏ فيمكن أن يكون جَرَى ذكرُ العذاب لحالِ الفاعلين، لا لحال الفعل‏.‏

وعلى هذا لا دليلَ في الآية على أن المسلمَ لو فعل ذلك، والعياذُ باللَّه، ثم حُدّ حدَّه، كان له عذابٌ في الآخرة أيضاً، لأنه ليس جزاء للفعل‏.‏ على هذا التقدير، بل الشَّنَاعة في الجزاءِ بشناعةُ الفاعلين‏.‏ وهذا موضعٌ مشكلٌ جداً يتحير فيه الناظر، فإنّ الآية تكونُ عامّةً بحكمِهَا، ثم تشتملُ على بعض أوصاف المورد، فيحدث التردد، هل هي معتبرةٌ في الحكم أيضاً أم لا، فيعتبرُهَا واحداً ويُجرى الحكمَ على المجموع، ويقطعُ عنها النظرَ آخر، ويزعمُ أن تلك الأوصافَ مخصوصةٌ بالمورد، ويأخذ الحكمُ العام، ويُعدِّيه إلى غيره، مما ليس فيه هذه الأوصاف، وهذا مما يتعسرُ جداً، وكثيراً ما يقع في القرآن مثل ذلك، فإنه يُبيِّن حكماً عاماً، ويومي إلى الوقائع أيضاً ليبقى له ارتباط بالموضع والمورد أيضاً، فإذا ركب عبارةً تعطي حكماً عاماً مع الإيماءات إلى الوقائع تعسر إدارة الحكم على بعضها، وترك بعضها، وإدارة الحكم على المجموع، فاعلمه فإنه مهمٌ جداً‏.‏

وهناك آية أخرى تتعلقُ بموضوعنا‏:‏ ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 92‏)‏ ومعناه عندي‏:‏ أن إيجابَ الصيام عليه ليخافَ ويقلعَ عنه في المستقبل، ويندم ولا يعود إليه ثانياً، وحينئذٍ تكون تلك الصيام مغفرة له، لا أن مجردَ الصيام مغفرة له‏.‏ وآية أخرى‏:‏ ‏{‏وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 45‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ‏}‏ قال التفتازاني في المطول‏:‏ إن التنوين في المسند على الأصل، فلا تحتاج إلى نكتة، أقول‏:‏ إلا تنوين المنعوت، فإنها لا تخلو عن نكتة، بخلاف التنوين في المُسند إليه، فإنها لما كانت على خلافِ الأصل، لا تخلو عن نكتة مطلقاً، فالتنوين في المسند المنعوت كما في قوله‏:‏

صح أن الوزير بدر منير *** إذ تواري كما توارى البدو

وفي المُسْنَد إليه، كما في قول عمرو بن أبي ربيعة المخزومي‏:‏

وغابت قمير كنت أرجو غيابها *** وروح وريحان ونوم وسمر

وعلى هذا التنوين في قوله‏:‏ ‏{‏كَفَّارَةٌ لَّهُ‏}‏ يفيد أن في الحدودِ تكفيراً ما، فإن التنوينَ فيه ليس حشواً، على أن لفظَ الكفارة يدلَ على الستر، لا على التطهير كل التطهير، فلا دلالة في الحديث على أن الحدودَ مكفراتٌ بالكلية، بل على أن فيها شيئاً من التكفير والستر، ولعل الحنفية أيضاً لا ينكرونه‏.‏

تنبيه‏:‏ واعلم أنه لا ينبغي أن يُبحثَ في الحديث عن المعاني الثواني، والمزايا، وأن يدارَ عليها المسائل، فإن الحق عندي‏:‏ أن لفظَ الحديث ليس بحجةً في هذا الباب، لفشو الروايةِ بالمعنى، فلا يتعين أنه من لفظه صلى الله عليه وسلّم أو من تلقاء الراوي، فينبغي أن تؤخذَ الأحكامُ من القدر المشترك، وتُدَار عليه‏.‏ وإنما ذكرت ههنا مسألة المعاني، وأيدت منها للمذهب لثبوتها من دلائل أخرى، وما جعلته مداراً، واستدلالاً‏.‏

والفَصْلُ عندي‏:‏ أن الأحوالَ بعد إقامة الحد ثلاثة‏:‏ فإن تابَ المحدودُ بعده، صار الحد كفارةً له بلا خلاف‏.‏ وإن لم يتبْ فلا يخلو، إما أنه انزجر عنه واعتبر له ولم يَعُد إليه، فقد صار كفارةً أيضاً وإن لم يبال به مبالاةً ولم يزل فيه منهمكاً كما كان، وعاد إليه ثانياً؛ فلا يصير كفارةً له‏.‏ ولذا صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم على امرأة غَامِدِية وقال‏:‏ «لقد تابت توبةً لو قُسِمَتْ على أهل المدينة لَوَسِعْتَهم»‏.‏ ولما لم تظهر تلك السماحةَ من مَاعِز رضي الله تعالى عنه، وعلم منه تأخر ما عند إقامة الحد، لم يصل عليه‏.‏ فهذه أحوالٌ فليراعها، وهذا كالإسلام، إن اشتمل على التوبة هدمَ ما سبق منه من المعاصي، وإلا أُخِذَ بالأول والآخر، فإذا كان حالُ الإسلامِ الذي هو من أعظمُ المكفِّرَات ما قد علمت، فما بالُ الحدود التي تكفيرها مختلف فيه‏؟‏ ولما كانت الحدود تتضمنُ التوبة في عامة الأحوال، وقلما تكون أن تجرى عليه هذه العقوبات، ثم لا يتوبُ في نفسهِ ولا ينزجِرُ، سيما في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم حُكِمَ في الأحاديث بكونها كفارةٌ مطلقاً‏.‏

باب‏:‏ مِنَ الدِّينِ الفِرَارُ مِنَ الفِتَن

قد يأخذ المصنفُ رحمه الله تعالى لفظاً من الحديث، ويركِّبُ منه ترجمة بقطعة من الحديث، ويريدُ أن يجعلَهَا مفيدة، فيضيفُ إليها جُملة من عنده، ويدخل عليها‏:‏ «من» التبعيضية، لتكون له دليلاً على تركب الإيمان‏.‏ ونقول من جانب الحنفية‏:‏ إنها ابتدائية كما مر تقريره‏.‏ «والفتنة» شيءٌ يقع به التمييز بين الحق والباطل وبحث في «الإحياء» أن العُزْلة أفضل أو الخُلْطة‏؟‏ قلت‏:‏ بل هو مختلِفٌ باختلاف الأحيان والأزمان ويُستفاد من الحديث أن العُزْلَة تكون أفضلَ في زمان مخافة أن تجرحَ الفتن دينه‏.‏ والفتنة هي التي لا يُعلم سوء عاقِبَتِها في أول أمرها، ثم ينكشِفُ بعد حين وغرض البخاريُّ أن صيانتَه دينه من الفتن، وإن كان بعد حصولِ الدِّين، لكن ليس ذلك من الدِّين وأجزائه‏.‏

باب‏:‏ قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلّم «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ»

العلمُ، والمعرفةُ، واليقينُ قد يطلق على الأحوال أيضاً، والعلوم لا تكون أحوالاً إلا بعد استيلائها، وحينئذٍ تكون عينَ الإيمان، وهو المراد في قوله صلى الله عليه وسلّم «من ماتَ وهو يعلمُ أن لا إله إلا اللَّهُ»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، فالعلم ههنا بمعنى الإيمان، أي يؤمنُ بتلك الكلمة وكذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏ ‏(‏فاطر‏:‏ 28‏)‏ وهم المؤمنون الذين رَسَخَ العلم في بواطنهم، وأُشْرِبَ به قلوبهم، وخالطت بها بشاشته، فأوجد فيهم نوراً، وحلاوة، وانبساطاً، فإن أريدَ به هذا النحوُ من العلم الذي هو من الأحوال، وهو الذي يستوجبُ العملَ، فهو عينُ الإيمان، وزيادتُهُ يكون دليلاً على زيادة الإيمان، ونقصانُهَ على نقصانه، وإلا فالاستدلال منه على طريق إلحاق النظير بالنظير، يعني كما أن في العلم مراتب، كذلك في الإيمان أيضاً، فإن العلمَ سببُ الإيمان، فإذا ثبت التشكيك في السببِ، ينبغي أن يثبتَ في مسببِهِ، أي الإيمان أيضاً‏.‏

‏(‏وأن المعرفة فعل القلب‏)‏إن كان المرادُ من المعرفة هي الاضطرارية، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ‏}‏ فهي ليست بفعلٍ بالمعنى اللغوي، لأن أهلَ اللغةِ لا يسمون فعلاً إلا الاختياري، وإن كان المرادُ منها ما تتقررُ بعد التكرر، وتغلبُ على الجوارح، وتكونُ مكسوبة، فهي فعلُ القلب قطعاً، وعينُ الإيمان، إلا أن الأوضحَ حينئذٍ أن يقول‏:‏ وإن الإيمان فعل القلب، لأنه أدلُ على مراده، ولكنه يتفنَنُ في أداء المقصود، فتارة، وتارة‏.‏ وهو المراد بما نُقل عن إمامنا رضي الله تعالى عنه في «الإحياء»‏:‏ أن الإيمان معرفة، وهكذا رُوِي عن أحمد رضي الله تعالى عنه أيضاً، إلا أنه إذا نُقل عن الإمام الهُمام رحمه الله تعالى جعلوا يُنكرونَ عليه، وإذا جاء عن أحمد رحمه الله تعالى مروا به كِرَامَاً‏.‏

أصم عن الشيء الذي لا أريده *** وأسمع خلق اللَّه حين أريد

وقد مر نُبذة من الكلام عند تحقيقِ محل الإيمان، وإن الأولى أن يقول المصنف رحمه الله تعالى‏:‏ وإن الإيمانَ فعلُ القلب، فراجعه‏.‏ وقد يتخايل أنه أراد منه الردَ على المعتزلة، فإنهم قائلون‏:‏ بأن المعرفةَ أولُ الواجبات، ثم الإيمان كما مر، فالمصنفُ يردُّ عليهم بأن المعرفة هي فعلُ القلب، فتكون عينَ الإيمان، فهي الواجبُ الأول، لا أن المعرفةَ أمرٌ وراءَ الإيمان، لتكون أولَ الواجبات هي، ثم يكون الإيمانُ بعده واجباً آخر‏.‏

‏{‏وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ وتقريرُ الاستشهاد على كون المعرفةِ فعلُ القلب، بأن فيها إسنادُ الكسب إلى القلب، فكما أن الكسبَ فعلٌ، كذلك المعرفةُ أيضاً من فعله ومكسوباتِهِ، فمن اعترض عليه بأن الآية في الأيمان لا في الإيمان فهو غافل عن طريقته في الاستدلال‏.‏

20- ‏(‏أمرهم من الأعمال بما يطيقون‏)‏ وهو طريق الحكيم، أي التشديدُ على نفسه، والتيسير على غيره، وهو طريق الأنبياء‏.‏

20- ‏(‏يا رسول اللَّه‏)‏ ولم أر صيغة الصلاة في كلامهم عند الخطاب، نعم في الغَيْبَة، وهكذا ينبغي أن يُقتفى آثارهم عند القراءة، فلا يَتَلَفظُ بها في مواضع الخطاب، وهو الرسمُ في الكتاب‏.‏

‏{‏قد غفر ا لك‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وجوَّزَ الأشاعرةُ وقوعَ الصغائرِ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل النبوة وبعدها، سهواً بل عمداً أيضاً، ونفاها الماتُرِيْديةُ مطلقاً‏.‏ والجواب عن الآية عندي‏:‏ أن الذنبَ غيرُ المعصية، وههنا مراتب، بعضها فوق بعض، ووضع لكلٍ لفظ، فالمعصيةُ عدولٌ عن الحكم، وانحرافٌ عن الطاعة، ومخالفةٌ في الأمر، وترجمته‏:‏ نافرمانى فهذا أشدها‏.‏ ثم الخطأ، وهو ضِدُّ الصواب، وترجمته في الهندية‏:‏ نادرست‏.‏ ثم الذنب، وهو أخفها، ومعناه‏:‏ العيب، فالسؤال ساقطٌ من أولِ الأمر، لأن في الآية ذكرُ مغفرة الذنوب، أي ما يعدُّ عيوباً في ذاته الشريفة، وشأنِهِ الرفيعة‏.‏ وقد سمعت‏:‏ أن حسناتِ الأبرار سيئاتِ المقربين، فلعل ذنوبه من هذا القبيل‏.‏ فالبحث ههنا بالصغائر والكبائر في غير موضعه، فإن هذا التقسيم يجري في المعصية، دون الذنوب بالمعنى اللغوي، بل هو موهم بخلافِ المقصود‏.‏ ثم ههنا إشكالان‏.‏

الأول‏:‏ أن الأنبياءَ عليهم الصَّلاة والسَّلام كلهم مغفورون، فما معنى التخصيصُ في حقه فقط، مع كونهم مغفورين أيضاً‏.‏ والثاني‏:‏ أن مغفرةَ ما تأخر مما لا يُفهم معناه، فإنها تقتضى وجودَ الذنوب أولاً، ولم توجد بعد‏.‏ والجواب عن الأول‏:‏ أن الذي هو مختصٌ به هو الإعلان بالمغفرة فقط، أما نفس المغفرة فقد عمتهم كلُّهم، وذلك لأنه قد أبيحت له الشفاعة الكبرى، وقُدِّر له المقام المحمود، فناسب الإعلان بها في الدنيا، ليثبِّتَ فؤادَه يوم الفزع الأكبر، ويسكن جأشه، ولا ترجف بوادره، فلا يتأخر عن الشفاعة الكبرى، التي هي منزلته ومقامه، ولو لم يعلن بها في الدنيا، لتذكَّر ذنوبه أيضاً كما تذكروا، ولما تقدم إليها كما لو يتقدموا، فلما حلت به المغفرة التي لم تغادر شيئاً من ذنوبه، وأعلن بها عن المنائر والمنابر، إلى يوم الحشر، علم أنه هو المأذون فيها‏.‏ وهو النبي الآسي والرسولُ المُوَاسي‏:‏ ولهذا المعنى لما عرضت الشفاعة على النبين قالوا‏:‏ ائتوا محمداً، فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنه، فذكروا هذا الوصف، فالإعلان والاطلاع لهذا، لا لأن المغفرةَ لم تشملهم‏.‏

والجواب عن الثاني‏:‏ أما أولاً فبالمنع بأن يقال‏:‏ إنا لا نُسلِّم أن المغفرة تَستدعي وجودَ الذنوب أولاً، بل المغفرة على ما يأتي، بمعنى أنك إن صدر عنك ذنب لن نؤاخذه منك، فهي بمعنى عدم المؤاخذة‏.‏ وأما ثانياً‏:‏ فبأن الجميع موجودة في علمه تعالى فصحت المغفرة على الجميع دفعة، لعدم التقدم والتأخر في علمه تعالى‏.‏ وثالثاً‏:‏ إن المغفرةَ من أحكام الآخرة، وهناك كلها ماضيةٍ، وإن كان في الدنيا بعضها ماضية وبعضها آتية‏.‏ وحكمة الاطلاع مرّت‏.‏

ثم إنه قال الشيخ ولي الله قُدِّس سِرُّه العزيز‏:‏ إن الوعد بالمغفرة مقتضاه العمل، والاحتياط لا عدم العمل وترك الاحتياط‏.‏ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم حين سئل عن عبادته مع مغفرة ذنوبه‏:‏ «أفلا أكونُ عبداً شكوراً»، فعُلم أن مقتضى المغفرة هو الازدياد في العمل شكراً، وهذا يفيدك فيما قيل في البدريين‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏.‏

20- ‏(‏فغضب‏)‏ ومَوْجِدَةُ النبي صلى الله عليه وسلّم إنما كان لأن سؤالهم كان مخالفاً للفطرةِ السليمة، فكان واجباً عليهم، أن يفهموه من فطرتهم، وهكذا ثبت منه في مواضعَ عديدة، فإذا أخطأ أحدهم في موضع، لم يكن موضع الخطأ غضب عليه، وإن كان موضعُ الاجتهاد، أغمض عنه، وستأتي عليك نظائره‏.‏

20- ‏(‏وأتقاك أي تحرزاً عن الشبهات والمناهي، وتصدياً إلى تقرب الله تعالى‏.‏

20- ‏(‏أعلمكم بالله أنا‏)‏ فمن كان علمه زائداً كانت عبادتُهُ أيضاً مَرضِيَّة، لأن العبادةَ اسمٌ للطاعة حسب رضى المطاع، فمن كان أزيد علماً برضى المطاع، كان أفضلُ عبادةً، فإن التقرب يتوقف على معرفة رضاء المطاع، والزمان، والمكان، لا على تَحمُّل المشقة؛ فإن الشيءَ الواحدَ قد يكون أرضى لأحد، ولا يكون اخر، وكذا يكون أرضى له بزمان، دون زمان‏.‏ فمعرفة هذه الأشياء هي الأهم، فإن الصلاة مشهودةٌ محضورةٌ، وهي عند الطلوع والغروب‏.‏ مردودةٌ محظورة، فاعلمه فإن الطبائِعَ السافلة يتحرون الفضل في تحمّلِ المشاق، ولذا قيل‏:‏ إن بعض الأولياء وإن كانوا أزيدَ طاعة كماً، لكنهم أنقصَ كيفاً عن الأنبياء بمراتب لا تحصى‏.‏

كما عند الترمذي في كتاب الدعوات‏:‏ أن بعضهم كان يسبح الله في كل يوم مئة ألف مرة‏.‏ وكان أبو يوسف رحمه الله يُصلي مئتي ركعة كل يوم في زمن قضائه، ولا حاجة لنا إلى ذكر ما عند الأولياء من إحياء الليالي وقيامها، وترك الاستراحة، والتبتل إلى الله عز وجل، والاعتزال عن الناس، فإنها أغنى عن البيان‏.‏

باب‏:‏ مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلقَى فِي النَّارِ مِنَ الإِيمَان

والأَوْلى أن يجعل الجملة بألفاظِهَا مبتدأ، ومن الإيمان خبره‏.‏ وأراد به البخاري رحمه الله تعالى الردَّ على من ظن أن الاجتنابَ عن الكفر لا يكون إلا بعد تمامية حقيقة الإيمان، كباب المفسدات في الفقه، فإنه يكون بعد باب صفة الصلاة، فهكذا الاجتنابُ لا ينبغي أن يكون بعده، فنبَّه على أنه مع كونه بعد الإيمان من الإيمان‏.‏